فصل: باب: إِثْم مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا بِغَيرِ جُرمٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كتاب الجزية

باب الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ مَعَ أَهْل الذمةِ وَالْحَرْبِ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏صَاغِرُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏، وَمَا جَاءَ فِى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالْعَجَمِ‏.‏

وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِى نَجِيحٍ‏:‏ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ‏:‏ مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّأْمِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ‏.‏

فيه‏:‏ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عن بَجَالَةُ، قَالَ‏:‏ كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ- عَمِّ الأحْنَفِ- فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِى مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ‏.‏

وفيه‏:‏ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، فَأْتِى بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ ‏[‏أَهْلَ‏]‏ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِىِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِى عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلاةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الْفَجْرَ انْصَرَفَ، يتَعَرَّضُون لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَىْءٍ‏)‏، قَالُوا‏:‏ أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ‏:‏ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِى أَفْنَاءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ، فَقَالَ‏:‏ إِنِّى مُسْتَشِيرُكَ فِى مَغَازِىَّ هَذِهِ، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، مَثَلُهَا وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ مَثَلُ طَائِرٍ لَهُ رَأْسٌ، وَلَهُ جَنَاحَانِ، وَلَهُ رِجْلانِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ، وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ، ذَهَبَتِ الرِّجْلانِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ، فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى‏.‏

وقال بَكْرٌ وَزِيَادٌ جَمِيعًا‏:‏ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ‏:‏ فَنَدَبَنَا عُمَرُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِى أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَامَ تَرْجُمَانٌ لَهُ فَقَالَ‏:‏ لِيُكَلِّمْنِى رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ‏:‏ سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ‏:‏ مَا أَنْتُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا فِى شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأرَضِينَ، إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا ورَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ وَنَعِيمٍ، لَمْ يَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، وَمَنْ بَقِىَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ، فَقَالَ النُّعْمَانُ‏:‏ رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُنَدِّمْكَ، وَلَمْ يُخْزِكَ، وَلَكِنِّى شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِى أَوَّلِ النَّهَارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ، وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ‏.‏

اختلف العلماء، فيمن تؤخذ منه الجزية، فروى ابن القاسم عن مالك أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب، ومن المجوس وعبدة الأوثان، وكل المشركين غير المرتدين، وقريش‏.‏

وفى مختصر ابن أبى زيد‏:‏ وتقاتل جميع الأمم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية‏.‏

وحكى الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه‏:‏ أن الجزية تقبل من أهل الكتاب، ومن سائر كفار العجم، ولا يقبل من مشركى العرب إلا الإسلام أو السيف‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، وزعم أن المجوس كانوا أهل كتاب فلذلك تؤخذ منهم الجزية، وروى ذلك عن على بن أبى طالب‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ فى حديث عمرو بن عوف أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتى بجزيتها، أن أهل البحرين كانوا مجوسًا من الفرس، ولم يكونوا من العرب، ولذلك قبل منهم الجزية، وأقرهم على مجوسيتهم‏.‏

واحتج الشافعى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏.‏

قال‏:‏ فدل هذا الخطاب أن من لم يؤت الكتاب ليس بمنزلتهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏)‏ ولا يجوز أن يكون أهل الكتاب داخلين تحت هذه الجملة؛ لأنهم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله لإخباره صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمة يحقن بها الدم والمال، فدل أن بغيرها لا يحقن الدم‏.‏

وحجة مالك حديث عبد الرحمن بن عوف ‏(‏أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر‏)‏ وقال فى المجوس‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب فى أخذ الجزية منهم‏)‏ وأيضًا فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان يبعث أمراء السرايا فيقول لهم‏:‏ ‏(‏إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فالجزية، فإن أعطوا وإلا فقاتلوهم‏)‏ ولم ينص على مشرك دون مشرك، بل عم جميع المشركين؛ لأن الكفر يجمعهم، ولما جاز أن يسترقهم جاز أن يأخذ منهم الجزية، عكسه المرتد لما لم يجز أن يسترقه لم يجز أخذ الجزية منه‏.‏

وليس فيما احتج به الشافعى من قوله‏:‏ ‏(‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ‏(‏دليل على أن الجزية لا يجوز أخذها من غير أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى لم ينه أن تؤخذ الجزية من غيرهم، وللنبى صلى الله عليه وسلم أن يزيد فى البيان، ويفرض ما ليس بموجود فى الكتاب، ألا ترى أن الله حرم الأمهات ومن ذكر معهن فى الآية، وحرم النبى أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وليس ذلك بخلاف لكتاب الله؛ فكذلك أخذ الجزية من جميع المجوس هو ثابت بالسنة الثابتة، وهذا ينتظم الرد على أبى حنيفة فى قوله أن مجوس العرب، لا يجوز أخذ الجزية منهم، ويؤخذ من سائر المجوس غيرهم؛ لإطلاقه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من جميع المجوس بقوله‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ ومن ادعى الخصوص فى هذا وأن المراد بعضهم فعليه الدليل‏.‏

وأما قول الشافعى‏:‏ أن المجوس كانوا أهل كتاب فرفع فهو غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لكان لنا أن نأكل ذبائحهم، وننكح نساءهم، وهذا لا يقوله أحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ يدل أنه لا كتاب لهم، وأيضًا فإنه لو كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لوجب أن يصيروا بمنزلة من لا كتاب له؛ لأن الشيء إذا كان لمعنى فارتفع المعنى ارتفع الحكم‏.‏

هذا قول ابن القصار‏.‏

واختلف العلماء فى مقدار الجزية، فقال مالك‏:‏ أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا، ولا حد لأقلها، وأخذ فى ذلك مالك ما رواه عن نافع، عن أسلم ‏(‏أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأهل الورق أربعين‏)‏‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ يؤخذ من الغنى‏:‏ ثمانية وأربعون درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرون، ومن الفقير اثنا عشر درهمًا، وبه قال أحمد بن حنبل، وأخذوا فى ذلك بما رواه إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر ‏(‏أنه بعث عثمان بن حنيف، فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثنى عشر‏)‏‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ ويزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم، على قدر ما يرى الإمام‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ الجزية دينار على الغنى والفقير، واحتج أصحابه بما رواه أبو وائل عن مسروق، عن معاذ أن الرسول قال له حين بعثه إلى اليمن‏:‏ ‏(‏خذ من كل حالم دينارًا، وعد له معافري‏)‏ وهو ثياب اليمن‏.‏

وقال الثورى‏:‏ قد اختلفت الروايات فى هذا عن عمر بن الخطاب، فللوالى أن ياخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذمة، وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير، وما حكاه البخارى عن مجاهد أنه جعل على أهل الشام أربعة دنانير، وعلى أهل اليمن دينارًا من أجل اليسار فهو قول حسن‏.‏

وقال عبد الوهاب بن نصر فى أمر النبى أن يأخذ من كل حالم دينارًا، يحتمل أن يكونوا لم يقدروا على أكثر منه‏.‏

وقد روى عن مالك أنه لا يزاد على الأربعين درهمًا، ولا بأس بالنقصان منها إذا لم يطق‏.‏

قال مالك‏:‏ وأرى أن ينفق من بيت المال على كل من احتاج من أهل الذمة إن لم تكن لهم حرفة‏.‏

ولا قوة على نفقة نفسه، وينفق على يتاماهم حتى يبلغوا‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وحدثنى مطرف، عن مالك قال‏:‏ بلغنى أن عمر بن الخطاب كان ينفق على رجل من أهل الذمة حين كبر وضعف عن العمل والخراج‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما قول عمر‏:‏ ‏(‏فرقوا بين كل ذى محرم من المجوس‏)‏ فيحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الله لم يأمر بأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا ينكحون ذوات المحارم، فإذا استعمل فيهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ احتمل أن لا يقبل منهم الجزية إلا أن يسن بهم سنة أهل الكتاب فى مناكحتهم أيضًا، والوجه الآخر‏:‏ أن يكون عمر غلب على المجوس عنوة ثم أبقاهم فى أموالهم عبيدًا يعملون فيها، والأرض للمسلمين، ثم رأى أن يفرق بين ذوات المحارم من عبيده الذين استبقاهم على حكمه واستبقاهم باجتهاده، وإن كان منعقدًا فى أصل استحيائهم واستبقائهم، ويكون اجتهاده فى تفريقه بين ذوات محارمهم مستنبطًا من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سنوا بهم سنة أهل الكتاب‏)‏ أى‏:‏ ما كان أهل الكتاب يحملون عليه فى حرمهم ومناكحتهم، فاحملوا عليه المجوس، والله أعلم أى الوجهين أراد عمر‏.‏

فيه‏:‏ أنه قد يغيب عن العالم المنور بعض العلم‏.‏

وفيه‏:‏ قبول خبر الواحد والعمل به‏.‏

وفيه‏:‏ أن طلب العطاء من الإمام لا غضاضة فيه على طالبه؛ لقولهم‏:‏ ‏(‏أجل يا رسول الله‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ التبشير بالإسهام لهم بقوله‏:‏ ‏(‏أبشروا وأملوا‏)‏ ومعنى ذلك‏:‏ أى أملوا أكثر ما تطلبون من العطاء؛ لأنهم لم يعرفوا مقدار ما قدم به أبو عبيدة فسرهم بأكثر مما يظنون‏.‏

وفيه‏:‏ علامة النبوة؛ لأنه أخبرهم بما يخشى عليهم فيما يفتح عليهم من الدنيا‏.‏

وفيه‏:‏ أن المنافسة فى الاستكثار من المال من سبل الهلاك فى الدنيا‏.‏

وقوله فى حديث جبير بن حية‏:‏ أفناء الأنصار فهم طوائف منهم لم يكونوا من فخذ واحد‏.‏

وأما مشاورة عمر الهرمزان فبعد أن أسلم، وكان رجلا بصيرًا بالحرب له دربة ورأى فى المملكة وتدبيرها؛ فلذلك شاوره عمر‏.‏

وفى هذا من الفقه‏:‏ أن المشاورة سنة لا يستغنى عنها أحد، ولو استغنى عنها لكان النبى صلى الله عليه وسلم أغنى الناس عنها؛ لأن جبريل كان يأتيه بصواب الرأى من السماء، ومع ذلك فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏وشاورهم فى الأمر ‏(‏ولو لم يكن في المشاورة إلا استئلاف النفوس، وإظهار المفاوضة والثقة بالمستشار لعلمه أن يبدو من الرأى ما لم يكن ظهر‏.‏

وأما العزيمة والعمل فإلى الإمام لا يشركه فيه أحد؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله ‏(‏فجعل العزيمة إليه، وجعله مشاركًا فى الرأى لغيره‏.‏

وفى هذا من الفقه‏:‏ جواز مشاورة غير الوزير إذا كان ممن يظن عنده الرأى والمعرفة‏.‏

وفيه‏:‏ ضرب الأمثال‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرأى فى الحرب القصد إلى أعظم أهل الخلاف شوكة، كما أشار الهرمزان؛ لأنه إذا استؤصل الأقوى سلم الأضعف‏.‏

وفيه‏:‏ كلام الوزير دون رأى الأمير، كما كلم عمر يوم حنين لأبى سفيان، وكما كلم أبو بكر الصديق فى قصة سلاح قتل أبى قتادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كنا فى شقاء شديد‏)‏ ففى ذلك وصف أنفسهم بالصبر والثبات على مضض العيش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نعرف أباه وأمه‏)‏ فإنه أراد شرفه ونسبه؛ لأن الأنبياء لا تبعث إلا من أشراف قومهم، فوصف شرف الطرفين من الأب والأم‏.‏

وقول النعمان للمغيرة‏:‏ ‏(‏ربما أشهدك الله مثلها‏)‏ يريد ربما شهدت مع النبى فيما سلف مثل هذه الأحوال الشديدة، وشهدت معه القتال، فلم يندمك ما لقيت معه من الشدة، ولم يحزنك لو قفلت معه؛ لعلمك بما تصير إليه من النعيم، وثواب الشهادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولكنى شهدت القتال مع رسول الله كثيرًا‏)‏ فهذا ابتداء كلام، واستئناف قصة أخرى، أعلمهم أن الرسول كان إذا لم يقاتل أول النهار ترك حتى تهب الرياح، يعنى‏:‏ رياح النصر، وتحضر أوقات الصلوات، وقد بين هذا المعنى حديث حماد بن سلمة عن النعمان بن مقرن قال‏:‏ ‏(‏كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وتهب رياح النصر‏)‏ وقد تقدم هذا الحديث وإسناده فى الجزء الأول من الجهاد فى باب ‏(‏كان النبى إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس‏)‏، وأيضًا فإن أفضل الأوقات أوقات الصلوات، وفيها الأذان وقد جاء فى الحديث ‏(‏أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد‏)‏‏.‏

باب إِذَا وَادَعَ الإمَامُ مَلِكَ قَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ

فيه‏:‏ أَبُو حُمَيْدٍ، غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ بُرْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر ابن إسحاق فى السير قال‏:‏ لما انتهى رسول الله إلى تبوك أتاه بحنة ابن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله، وأعطى الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابًا فهو عندهم، وكتب لبحنة بن رؤبة‏:‏ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله لبحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا من ماء يردونه، ولا طريق يردونها من بر أو بحر‏)‏‏.‏

والعلماء مجمعون على أن الإمام إذا صالح ملك القرية أنه يدخل فى ذلك الصلح بقيتهم؛ لأنه إنما صالح على نفسه ورعيته، ومن يلى أمره، وتشتمل عليه بلده وعمله، ألا ترى أن فى كتاب النبى تأمين ملك أيلة وأهل بلده‏.‏

واختلفوا إذا أمن طائفة منهم هل يدخل فى ذلك الإمام العاقد للأمان‏؟‏ فذكر الفزارى عن حميد الطويل قال‏:‏ حدثنى حبيب أبو يحيى- وكان مولاه مع أبى موسى- قال‏:‏ حاصر أبو موسى حصنًا بتستر- أو بالسوس- فقال صاحبهم‏:‏ أتؤمن لى مائة من أصحابى وأفتح لك الحصن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فجعل يعزلهم ويعدهم، فقال أبو موسى‏:‏ أرجو أن يمكن الله به وينسى نفسه بعد مائة‏.‏

فعد مائة وعزلهم، ونسى نفسه فأخذه فقال‏:‏ إنك قد أمنتني‏.‏

قال‏:‏ لا، وأما إذ أمكن الله منك من غير غدر‏.‏

فضرب عنقه‏)‏‏.‏

وذكر أبو عبيد عن الفزارى، عن حميد الطويل، عن حبيب أبى يحيى عن خالد بن زيد قال‏:‏ ‏(‏حاصرنا السوس، فلقينا جهدًا، وأمير الجيش أبو موسى، فصالحه دهقانها‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

وذكر عن النخعى قال‏:‏ ارتد الأشعث بن قيس فى زمن أبى بكر الصديق مع ناس، وتحصنوا فى قصر، وطلب الأمان بسبعين رجلا فأعطاهم، فنزل فعد سبعين ولم يدخل نفسه منهم، فقال له أبو بكر‏:‏ إله لا أمان لك إنا قاتلوك، فأسلم وتزوج أخت أبى بكر الصديق‏.‏

وقال أصبغ وسحنون‏:‏ يدخل العلج الآخذ للأمان للعدد المصالح عليهم فى الأمان، وإن لم يعد نفسه، ولا يحتاج أن يعد نفسه فيهم، ولا يذكرها؛ لأنه لم يأخذ الأمان لغيره إلا وقد صح الأمان لنفسه، ولم يريا فعل أبى موسى حجة‏.‏

قال سحنون‏:‏ وبأقل من هذا صح الأمان للهرمزان من عند عمر بن الخطاب‏.‏

باب الْوَصَاةِ بِأَهْلِ ذِمَّةِ النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم

وَالذِّمَّةُ‏:‏ الْعَهْدُ، وَالإلُّ‏:‏ الْقَرَابَةُ فيه‏:‏ عُمَرَ، قُلْنَا‏:‏ أَوْصِنَا، قَالَ‏:‏ أُوصِيكُمْ بِذِمَّةِ اللَّهِ، فَإِنَّها ذِمَّةُ نَبِيِّكُمْ، وَرِزْقُ عِيَالِكُمْ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الحض على الوفاء بالذمة، وما عوقدوا عليه من قبض الأيدى عن أنفسهم وأموالهم غير الجزية، وقد ذم النبى صلى الله عليه وسلم من إذا عاهد غدر، وجعل ذلك من أخلاق النفاق‏.‏

باب مَا أَقْطَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ يُقْسَمُ الْفَىْءُ وَالْجِزْيَةُ‏؟‏

فيه‏:‏ أَنَس، دَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بالأنْصَارَ؛ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا‏:‏ لا، وَاللَّهِ حَتَّى تَكْتُبَ لإخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ‏)‏، يَقُولُونَ لَهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِى أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِى عَلَى الْحَوْضِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا‏)‏، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِى، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ قَالَ لِى‏:‏ ‏(‏لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، لأعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا‏)‏، فَقَالَ لَهُ‏:‏ احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لِى‏:‏ عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا خَمْسُمِائَةٍ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَسٍ، أن النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أتى بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْثُرُوهُ فِى الْمَسْجِدِ‏)‏، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِىَ بِهِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِى فَإِنِّى فَادَيْتُ نَفْسِى وَفَادَيْتُ عَقِيلا، قَالَ‏:‏ خُذْ، فَحَثَا فِى ثَوْبِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أراد صلى الله عليه وسلم أن تخص الأنصار بهذا الإقطاع؛ لما كانوا تفضلوا به على المهاجرين، من مشاركتهم فى أموالهم، فقالت الأنصار‏:‏ لا والله حتى تكتبه لإخواننا من قريش تعنى المهاجرين بمثلها إمضاء لما وصفهم الله به من الأثرة على أنفسهم، وحسن التمادى على الكرم‏.‏

وفيه‏:‏ جواز التردد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرة بعد المرة، وجواز التردد بالإبانة عن الشيء، لما يكون فى ذلك من الفخر والعز، كما أبت الأنصار أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان فى ذلك فخرهم وعزهم‏.‏

وفيه‏:‏ لزوم الوعد للأمراء وأشراف الناس، وأنه مما يقضى عنهم على طريق الفضل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم، وسيأتى ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها فى كتاب الهبة، فى باب‏:‏ ‏(‏إذا وعد أو وهب ثم مات قبل أن يصل إليه‏)‏ إن شاء الله‏.‏

وفيه‏:‏ تأدية الإمام ديون من كان قبله من الأئمة والخلفاء‏.‏

وفيه‏:‏ أن ما كان أصله على سبيل التفضل أن يكون جزافًا بغير وزن؛ بخلاف البيوع وما فيه معنى التشاح‏.‏

وأما الفيء والجزية والخراج فحكم ذلك واحد، وما اجتبى من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التى بها حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ومنها وضيعة أرض الصلح التى منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى، ومنها خراج الأرضين التى فتحت عنوة، ثم أقرها الإمام فى أيدى أهل الذمة التى يمرون بها لتجارتهم، ومنها ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارة، فكل هذا من الفيء، وهو الذى يعم المسلمين غنيهم وفقيرهم، فيكون فى أعطية المقاتلة وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام وأهله قاله أبو عبيد‏.‏

واختلف الصحابة فى قسم الفيء، فروى عن أبى بكر الصديق التسوية بين الحر والعبد، والشريف والوضيع، وروى عنه أنه كلم فى أن يفضل بين الناس، فقال‏:‏ ‏(‏فضيلتهم عند الله، فأما هذا المعاش فالتسوية فيه خير‏)‏‏.‏

وهو مذهب على بن أبى طالب، وإليه ذهب الشافعي‏.‏

وأما عمر فكان يفضل أهل السوابق ومن له من رسول الله قرابة فى العطاء، وفضل أزواج النبى فى العطاء على الناس أجمعين، ففرض لكل واحدة اثنى عشر ألفًا؛ ولم يلحق بهن أحدًا إلا العباس، فإنه جعله فى عشرة آلاف، وذهب عثمان فى ذلك إلى التفضيل، وبه قال مالك، فلما جاء على بن أبى طالب سوى بين الناس، وقال‏:‏ ‏(‏لم أعب تدوين عمر الدواوين ولا تفضيله، ولكن أفعل كما كان خليلى رسول الله يفعل‏)‏ فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثم يأمر ببيت المال فينضح، ويصلى فيه‏.‏

واما الكوفيون فالأمر عندهم فى ذلك إلى اجتهاد الإمام، إن رأى التفضيل فضل، وإن رأى التسوية سوى‏.‏

وأحاديث هذا الباب تدل على التفضيل، وهو حجة لمن قال به‏.‏

باب‏:‏ إِثْم مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا بِغَيرِ جُرمٍ

فيه‏:‏ ابْن عَمْرٍو، قَالَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا‏)‏‏.‏

هذا على طريق الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار، وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى الديات والعقول إن شاء الله فقد كرر فيه هذه الترجمة‏.‏

باب إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ

وَقَالَ عُمَرُ، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ بِهِ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ‏)‏ فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ يَوْمُ الْخَمِيْس اشْتَدَّ بِالنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ائْتُونِى بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِىٍّ تَنَازُعٌ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ذَرُونِى، لَلَّذِى أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاثٍ، فَقَالَ‏:‏ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ كَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ‏)‏، وَالثَّالِثَةُ نسيها سليمان الأحوال‏.‏

أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أقركم ما أقركم الله‏)‏ فمعناه‏:‏ أنه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنه امتحن فى استقبال القبلة حتى نزل‏:‏ ‏(‏قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها ‏(‏فامتحن مع بنى النضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله تعالى باجتلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود‏.‏

وكان لا يتقدم فى شيء إلا بوحى الله وكان يرجو أن يحقق الله رغبته فى إبعاده اليهود عن جواره فقال ليهود خيبر‏:‏ ‏(‏أقركم ما أقركم الله‏)‏ منتظر للقضاء فيهم، فلم يوح إليه فى ذلك بشيء إلى أن حضرته الوفاة، فأوحى إليه فيه فقال‏:‏ ‏(‏لا يبقين دينان بأرض العرب‏)‏ فأوصى بذلك عند موته، فلما كان فى خلافة عمر وعدوا على ابنه وفدعوه، فحص عن قول النبى فيهم، فأخبر أن نبى الله أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب‏.‏

فقال‏:‏ من كان عنده عهد من رسول الله فليأت به، وإلا فإنى مجليكم‏.‏

فأجلاهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما أمر بإخراجهم والله أعلم خوف التدليس منهم، وأنهم متى ناوؤا عدوًا قويا صاروا معه كما فعلوا بالنبى يوم الأحزاب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه من الفقه أن النبى صلى الله عليه وسلم بين لأئمة المؤمنين إخراج كل من دان بغير دين الإسلام من كل بلدة للمسلمين سواء كانت تلك البلدة من البلاد التى أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة إذا لم لم يكن بالمسلمين ضرورة إليهم ولم يكن الإسلام يومئذ ظهر فى غير جزيرة العرب ظهور قهر، فبان بذلك أن سبيل بلدة قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلح على إقرارهم فيها أن على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار مسافرًا ومقام ظعن وأكثر ذلك ثلاثة أيام ولياليها، كالذى فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره، فإن ظن ظان أن فعل عمر فى ذلك إنما هو خاص بمدينة الرسول، وسائر جزيرة العرب؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام وقال‏:‏ ‏(‏لو كان‏)‏ حكم غير جزيرة العرب كحكمها فى التسوية بين جميعها فى إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقر النصارى فى سواد العراق وقد قهرهم الإسلام وعلاهم ولكان قد أجلى نصارى الشام ويهودها عنه، وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولما ترك مجوس فارس فى أرضهم، وقد غلبهم الإسلام وأهله، فإن الأمر فى ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن عمر لم يقر أحدًا من أهل الشرك فى أرض قد قهر فيها الإسلام، وغلب ولم يتقدم قبل ذلك قهره إياهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلح على الترك فيها إلا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العرق فى السواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره من أقر من نصارى الشام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها؛ فإنه أقرهم للضرورة إليهم فى عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون فى الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض، وبقيت بغير عامر‏.‏

فكان فعلهم فى ذلك نظير فعله صلى الله عليه وسلم وفعل الصديق فى يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم، عمالا عمارا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورة لعمارة أرضهم، لاشتغالهم بالحرب فى مناوأة الأعداء‏.‏

ثم أمر رسول الله بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمالا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فها ما أقرهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك‏.‏

وأقرهم الصديق على نحو ذلك‏.‏

فأما إقرارهم مع المسلمين فى مصر لم يكن تقدم فى ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلح بينهم وبين المسلمين بما لا نعلمه صح به عنه، ولا عن غيره من أئمة الهدى خبر ولا قامت بجواز ذلك حجة، بل الحجة فى ذلك عن الأئمة ما قلناه‏.‏

حدثنى محمد بن يزيد الرفاعى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبى الربيع، عن أبان بن تغلب، عن رجل قال‏:‏ ‏(‏كان منادى على ينادى كل يوم‏:‏ لا يبيتن بالكوفة يهودى ولا نصرانى ولا مجوسى، الحقوا بالحيرة‏)‏‏.‏

وحدثنا الرفاعى، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لا يساكنكم أهل الكتاب فى أمصاركم‏)‏ قال أبو هشام الرفاعى‏:‏ سمعت يحى بن آدم يقول‏:‏ هذا عندنا على كل مصر اختطه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا قول لا معنى له؛ لأن ابن عباس لم يخصص بقوله‏:‏ لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكانه المسلمون دون غيرهم، بل عم بذلك جميع أمصارهم، وإن دلالة أمره صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب يوضح صحة ما قال ابن عباس وأن الواجب على الإمام إخراجهم من كل مصر غلب عليه الأسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورة، ولا كانت من بلاد الذمة التى صولحوا على الإقرار فيها إلحاقا لحكمة بحكم جزيرة العرب، وذلك أن خيبر لم تكن من البلاد التى اختطها المسلمون وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب وهم كانوا عمارهم وسكانها فأمر رسول الله بإخراجهم منها حين غلب عليهم الإسلام، ولم يكن بهم إليهم ضرورة‏.‏

وقد حدثنا أبو كريب حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا تصح قبلتان فى أرض‏)‏ فإذا صح ما قلناه فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر بعض أهل الكتاب فى بعض بلاد المسلمين لحاجتهم إليهم لعمارتها أو غير ذلك ألا يدعهم فى مصرهم معهم أكثر من ثلاث، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذى فعل عمر وعلى، وأن يمنعهم اتخاذ الدور والمساكن فى أمصارهم، فإن اشترى منهم مشتر فى مصر من أمصار المسلمين دارًا، أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه؛ لأنه ليس للمسلمين إقرار مسلم فى ملك كافر، فكذلك غير جائز إقرار أرض المسلمين فى غير ملكهم‏.‏

قال غيره‏:‏ وكذلك الحكم فى الرجل المسلم الفاسق، إذا شهد عليه أنه مؤذ لجيرانه بالسفه والتسليط، ويشكى به جيرانه، وصح ذلك عند الحاكم، أن له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كان له دار أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكر باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، ورأيت لابن القاسم أنه قال فى المؤذى‏:‏ تكرى عليه الدار ولا تباع، وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الأحكام إن شاء الله‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ قال الأصمعى‏:‏ جزيرة العرب ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق فى الطول‏.‏

وأما فى العرض من جدة، وما والاها من ساحل البحر إلى أطوار الشام‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ عقبة تبوك هو الفرق بين جزيرة العرب وأرض الشام‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ جزيرة العرب ما بين حفر أبى موسى إلى أقصى اليمن فى الطول‏.‏

وأما فى العرض فما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وإنما قيل لها‏:‏ جزيرة العرب، وهى جزيرة البحر؛ تعريفا لها، وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل‏:‏ لأجأ وسلمى وهما جبلان من نجد‏:‏ جبلا طيء؛ تعريفًا لهما بطيء، وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجد، وإنما قيل لها جزيرة؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر فى كلام العرب القطع، ومنه سمى الجزار‏:‏ جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى حديث ابن عباس أن جوائز الوفود سنة‏.‏

باب‏:‏ إِذَا غَدَرَ المشْرِكُون بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُم‏؟‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجْمَعُوا إِلَىَّ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ‏)‏، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى سَائِلُكُمْ عَنْ شَىْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْهُ‏)‏‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَبُوكُمْ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ فُلانٌ، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ‏)‏، قَالُوا‏:‏ صَدَقْتَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِىَّ عَنْ شَىْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا‏:‏ نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِى أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ‏:‏ ‏(‏مَنْ أَهْلُ النَّار‏؟‏‏)‏ قَالُوْا‏:‏ نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُم فِيهَا أَبَدًا‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ جَعَلْتُمْ فِى هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيء يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدى إليه اجتهاده، وأما إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شره؛ فلا سبيل إلى العفو، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى العرنيين عاقبهم بالقتل، وإن كان صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة‏:‏ ‏(‏ما زالت أكلة خيبر تعادنى فهذا أوان قطع أبهري‏)‏ لكنه عفا عنهم حين لم يعلم أنه يقضى عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه وأراد الله له الشهادة بتلك الأكلة؛ فلذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإن اليهود قالوا‏:‏ أردنا أن نختبر بذلك نبوتك وصدقك، فإن كنت نبيا لم يضرك‏.‏

فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنه كان لا ينتقم لنفسه تواضعًا لله، وكأن لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنه كان على خلق عظيم من الصفح، والإغضاء والصبر، وأصل هذا كله أن الإمام فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه وفيه من علامات النبوة‏.‏

باب‏:‏ دُعَاءِ الإِمَامِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدًا

فيه‏:‏ أَنَس، سُئل عَنِ الْقُنُوتِ، قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّ فُلانًا يَزْعُمُ أَنَّكَ قُلْتَ‏:‏ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَقَالَ‏:‏ كَذَبَ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ، قَالَ‏:‏ بَعَثَ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ- شُكُّ فِيهِ- مِنَ الْقُرَّاءِ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَعَرَضَ لَهُمْ هَؤُلاءِ، فَقَتَلُوهُمْ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ، فَمَا رَأَيْتُهُ وَجَدَ عَلَى أَحَدٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ كان النبى لا يدعو بالشر على أحد من الكفار ما دام يرجو لهم الرجوع والإقلاع عما هم عليه‏.‏

ألا ترى أنه سئل أن يدعو على دوس، فدعا لها بالهدى، وإنما دعا على بنى سليم حين نكثوا العهد وغدروا ويئس من إنابتهم ورجوعهم عن ضلالتهم؛ فأجاب الله دعوته، وأظهر بذلك صدقه وبرهانه، وهذه القصة أصل فى جواز الدعاء فى الصلاة والخطبة على عدو المسلمين أومن خالفهم ومن نكث عهدًا وشبهه‏.‏

باب‏:‏ أَمَانَ النِسَّاءِ وَجِوَارِهنَّ

فيه‏:‏ أَبُو مُرَّة، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عن أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ‏:‏ ذَهَبْتُ إِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذِهِ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ‏)‏، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّى عَلِىٌّ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلا قَدْ أَجَرْتُهُ فُلانُ بْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ‏)‏، وَذَلِكَ ضُحًى‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ جواز أمان المرأة، وأن من أمنته حرم قتله، وقد أجارت زينب بنت رسول الله أبا العاص بن الربيع، وعلى هذا جماعة الفقهاء بالحجاز والعراق منهم‏:‏ مالك، والثورى، وأبو حنيفة، والأوزاعى، والشافعى، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق، وشذ عبد الملك بن الماجشون وسحنون عن الجماعة فقالوا‏:‏ أمان المرأة موقوف على جواز الإمام، فإن أجازه جاز وإن رده رد‏.‏

واحتج من أجاز ذلك بأمان أم هانىء؛ لو كان جائزا على كل حال دون إذن الإمام، ما كان على يريد قتل من لا يجوز قتله لأمان من يجوز أمانه، ولقال لها رسول الله‏:‏ قد أمنت أنت وغيرك، فلا يحل قتله، فلما قال لها صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أجرنا من أجرت‏)‏‏.‏

كان ذلك دليلا على أن أمان المرأة موقوف على إجازة الإمام أو رده‏.‏

واحتج الآخرون بأن عليا وغيره لا يعلم إلا ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأن إرادته لقتل ابن هبيرة كان قبل أن يعلم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم‏)‏‏.‏

ولما وجدنا هذا الحديث من رواية على بن أبى طالب، ثبت ما قلناه، وكان من المحال أن يعلم على هذا من النبى ويرويه عنه، ثم يريد قتل من أجارته أخته، وعلى هذا القول يكون تأويل قوله‏:‏ ‏(‏قد أجرنا من أجرت‏)‏، أى‏:‏ فى سنتنا وحكمنا إجارة من أجرت أنت ومثلك، والدليل على صحة هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم‏)‏‏.‏

والمرأة من أدناهم، وقد ذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن الرسول خطب بها عام الفتح على درجات الكعبة، وقال‏:‏ ‏(‏يد المسلمين واحدة على من سواهم‏)‏‏.‏

باب‏:‏ ذِمةُ المسْلِمِينَ وَجِوَارُهُم وَاحِدةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُم

فيه‏:‏ عَلِىّ، قَالَ‏:‏ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ‏:‏ فِيهَا الْجِرَاحَاتُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏ذمة المسلمين واحدة‏)‏ أى‏:‏ من انعقدت عليه ذمة من طائفة من المسلمين أن الواجب مراعاتها من جماعتهم إذا كان يجمعهم إمام واحد، فإن اختلفت الأئمة والسلاطين فالذمة لكل سلطان لازمة لأهل عمله، وغير لازمة للخارجين عن طاعته؛ لأن النبى إنما قال ذلك فى وقت إجماعهم فى طاعته، ويدل على ذلك حديث أبى بصير، حين كان شارط النبى صلى الله عليه وسلم أهل مكة وقاضاهم على المهادنة بينهم وبين المسلمين، فلما خرج أبو بصير من طاعة النبى وامتنع، لم تلزم النبى ذمته، ولا طولب برد جنايته، ولا لزمه غرم ما انتهكه من المال‏.‏

وقال ابن المنذر فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يسعى بها أدناهم‏)‏ قال‏:‏ الذمة‏:‏ الأمان، يقول‏:‏ إن كل من أمن أحدًا من الحربيين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيا كان أو شريفًا، حرا كان أو عبدًا، رجلا أو امرأة، وليس لهم أن يخفروه‏.‏

واتفق مالك والثورى والأوزاعى والليث والشافعى وأبو ثور على جواز أمان العبد قاتل أو لم يقاتل، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يسعى بذمتهم أدناهم‏)‏‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل‏.‏

وقولهما خلاف مفهوم الحديث‏.‏

وأجاز مالك أمان الصبى إذا عقل الإسلام، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعى وجمهور الفقهاء، واحتج الشافعى بأن الصبى لا يصح عقده؛ فكذلك أمانه، والحجة لمالك عموم قوه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يجير على المسلمين أدناهم‏)‏ فدخل فى ذلك الصبى وغيره، وأيضًا فإن أحكام الصبى تطوع، وهو ممن يصح منه التطوع، ويفرض له سهمه إذا قاتل، وإنما الأمان مما اختص به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وعلى أن الصبى والعبد أحسن حالا من المرأة، لأنها ليست من جيش من يقاتل‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله ‏(‏فمن اخفر مسلمًا‏)‏ يعنى‏:‏ فيمن أجاره فعليه لعنة الله والملائكة‏.‏

وهذا اللعن وسائر لعن المسلمين إنما هو متوجه إلى الإغلاظ والترهيب لهم عن المعاصى، والإيعاد لهم من قبل مواقعتها، فإذا وقعوا فيها دعى لهم بالتوبة، يبين هذا حديث النعمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يقبل منه صرف ولا عدل‏)‏ يعنى‏:‏ فى هذه الجناية أى لا كفارة لها؛ لأنه لم يشرع فيها كفارة فهى إلى أمر الله إن شاء عذب فيها وإن شاء غفرها على مذهب أهل السنة فى الوعيد‏.‏

باب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أن يقولوا أَسْلَمْنَا

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ‏)‏‏.‏

وقال عُمَرُ‏:‏ إِذَا قَالَ‏:‏ مَتْرَسْ، فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الألْسِنَةَ كُلَّهَا، أَوَ قَالَ‏:‏ تَكَلَّمْ، لا بَأْسَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى فى هذا الباب نحو ما تقدم فيمن تكلم بالفارسية والرطانة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختلاف ألسنتكم وألوانكم ‏(‏فذكر فيه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه تكلم بألفاظ الفارسية، وكانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه، وفهموها عنه‏.‏

فالمراد من هذين البابين أن العجم إذا قالوا‏:‏ صبأنا، وأرادوا بذلك الإسلام فقد حقنوا دماءهم ووجب لهم الأمان؛ ألا ترى قول عمر‏:‏ ‏(‏إذا قال‏:‏ مترس، فقد آمنه، إن الله يعلم الألسنة كلها‏)‏ فسواء خاطبنا العجم بلغتهم، أو خاطبناهم بها على معنى الأمان؛ فقد لزم الأمان وحرم القتل‏.‏

ولا خلاف بين العلماء أن من أمنَّ حربيا بأى كلام يفهم به الأمان، فقد تم له الأمان وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالك والشافعى وجماعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولم يفهم خالد من قوله‏:‏ ‏(‏صبأنا‏)‏ أنهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللفظة على ظاهرها، وتأولها أنها فى معنى الكفر؛ فلذلك قتلهم، ثم تبين أنهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا‏:‏ صبأنا‏.‏

وإنما قالوا ذلك؛ لأن قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النبى‏:‏ صبأ فلان حتى صارت هذه اللفظة معروفة عند الكفار وعادة جارية، فقالها هؤلاء القوم، فتأولها خالد على وجهها، فعذره النبى بتأويله، ولم يقد منه، وسيأتى اختلاف العلماء فى الحاكم إذا أخطأ فى اجتهاده فقتل من لم يجب عليه القتل، على من ضمان ذلك‏؟‏ فى كتاب الأحكام فى باب‏:‏ إذا قضى القاضى بجور أو خلاف أهل العلم فهو مردود إن شاء الله‏.‏

وأما قول عمر فذكره مالك فى الموطأ أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل جيش‏:‏ ‏(‏بلغنى أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد فى الجبل وامتنع قال رجل‏:‏ مترس‏.‏

يقول‏:‏ لا تخف، فإذا أدركه قتله، والذى نفسى بيده، لا أعلم أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه‏)‏‏.‏

قال مالك‏:‏ وليس على هذا العمل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يعنى فى قتل المسلم بالكافر، وعليه العمل فى جواز التأمين‏.‏

وأما قول عمر‏:‏ أو قال‏:‏ تكلم‏.‏

لا بأس‏.‏

فإنه يعنى قول عمر‏:‏ للهرمزان تكلم‏.‏

لا بأس فكان ذلك له عهدًا وتأمينًا‏.‏

ذكر ابن أبى شيبة، حدثنا مروان بن معاوية، عن حميد، عن أنس قال‏:‏ ‏(‏حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فلم يتكلم، فقال عمر‏:‏ تكلم فقال‏:‏ كلام حى أو كلام ميت‏؟‏ فقال عمر تكلم فلا بأس‏.‏

قال‏:‏ إنا وإياكم معشر العرب ما خلا الله بيننا كنا نقتلكم ونغصبكم، فأما إذا كن معكم فلم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر‏:‏ نقتله يا أنس‏؟‏ قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين، تركت خلفى شوكة شديدة وعدوًا كثيرًا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم‏.‏

فقال‏:‏ يا أنس، أستحيى قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور‏؟‏ فلما خشيت أن ينبسط عليه قلت له‏:‏ ليس لك إلى قتله سبيل، فقال‏:‏ أعطاك شيئًا‏؟‏ قلت‏:‏ ما فعلت، ولكنك قلت له‏:‏ تكلم فلا بأس، قال‏:‏ لتجيئن بمن يشهد معك وإلا بدأت بعقوبتك‏؟‏ فخرجت من عنده، فإذا أنا بابن الزبير بن العوام قد حفظ ما حفظت، فشهد عنده فتركه، وأسلم الهرمزان وفرض له‏)‏‏.‏

باب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ وَفَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ

فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ، قَالَ‏:‏ انْطَلَقَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ، إِلَى خَيْبَرَ، وَهِىَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَمَّطُ فِى دَمِهِ قَتِيلا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ، إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ عَبْدُالرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ‏:‏ كَبِّرْ، كَبِّرْ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ، أَوْ صَاحِبَكُمْ‏)‏، قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَتُبْرِيكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ‏)‏، فَقَالُوا‏:‏ كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ لا بأس بالموادعة والمصالحة للمشركين بالمال إذا كان ذلك بمعنى الاستئلاف للكفار، لا إذا كانت الجزية لأنها ذلة وصغار، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ‏(‏وإنما وداه النبى من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا منه فى دخولهم الإسلام، وليستكف بذلك شرهم عن نفسه، وعن المسلمين مع إشكال القضية بإبائة أولياء القتيل من اليمين وإبائتهم أيضًا من قبول أيمان اليهود، فكان الحكم أن يكون مطلولا، ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يوادع اليهود بالغرم عنهم؛ لأن الدليل كان متوجهًا إلى اليهود فى القتل لعبد الله، وأراد أن يذهب ما بنفوس أوليائه من العداوة لليهود، بأن غرم لهم الدية؛ إذ كان فى العرب جاريًا أن من أخذ جية قتيله فقد انتصف‏.‏

وذكر الوليد بن مسلم قال‏:‏ سألت الأوزاعى عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فدية أو هدنة يؤديها المسلمون إليهم فقال‏:‏ لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة وشغل من المسلمين عن حربهم من قتال عدوهم، أو فتنة ‏(‏سلمت‏)‏ المسلمين، فإذا كان ذلك وذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز فقال‏:‏ قد صالحهم معاوية أيام صفين، وصالحهم عبد الملك بن مروان لشغله بقتال ابن الزبير، يؤدى عبد الملك إلى طاغية الروم فى كل يوم ألف دينار، وإلى تراجمة الروم وأنباط الشام فى كل جمعة ألف دينار‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يعطيهم المسلمون شيئا بحال إلا أن يخافوا أن يصطلحوا لكثرة العدد لأنه من معانى الضرورات أو يؤسر مسلم فلا يخلى إلا بفديه فلا بأس به لأن رسول الله قد فدا رجلا برجلين‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولم أجد لمالك وأصحابه ولا للكوفيين نصًا فى هذه المسألة، وقال الأوزاعى‏:‏ لا بأس أن يصالحهم الإمام على غير خراج يؤدونه إليه، ولا فدية إذا كان ذلك نظرًا للمسلمين وإبقاء عليهم، وقد صالح رسول الله قريشًا عام الحديبية على غير خراج أدته قريش إلى رسول الله ولا فدية‏.‏

باب‏:‏ فَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِى الْمُدَّةِ الَّتِى مَادَّ فِيهَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ فِى كُفَّارِ قُرَيْشٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد جاء فضل الوفاء بالعهد وذم الختر فى غير موضع فى الكتاب والسنة، وإنما أشار البخارى فى هذا الحديث إلى سؤال هرقل لأبى سفيان‏:‏ هل يغدر‏؟‏ إذ كان الغدر عند كل أمة مذمومًا قبيحًا، وليس هو من صفات رسل الله، فأراد أن يمتحن بذلك صدق النبى؛ لأن من غدر ولم يف بعهد لا يجوز أن يكون نبيًا؛ لأن الأنبياء والرسل عليهم السلام أخبرت عن الله بفضل من وفى بعهد وذم من غدر وختر ألا ترى قةله صلى الله عليه وسلم فى صفة المنافق‏:‏ ‏(‏إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يرفع للغادر لواء يوم القيامة، فيقال‏:‏ هذه غدرة فلان‏)‏ وهذه مبالغة فى العقوبة وشدة الشهرة والفضيحة‏.‏

باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 62‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ، أَتَيْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ مَوْتِى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ، تَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الأصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث علامات النبوة، وأن الغدر من أشراط الساعة، وفى الآية دليل أن الرسول معصوم من مكر الخديعة طول أيامه، وليس ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال‏:‏ ‏(‏والله يعصمك من الناس ‏(‏وأجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة، وقد عصم من مكر الناس وغدرهم له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كقعاص الغنم‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ ‏(‏القعاص‏)‏‏:‏ هو داء يأخذ الدواب، فيسيل من أنوفها شيء، وقد قعصت الدابة‏.‏

والغاية هاهنا‏:‏ الراية؛ لأنها غاية المتبع، إذا وقفت وقف، وإذا مشت تبعها‏.‏

وهذه العلامات التى أنذر صلى الله عليه وسلم بها قد ظهر كثير منها، والفتنة لم تزل من زمن عثمان عصمنا الله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وقد دعا صلى الله عليه وسلم ألا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها‏.‏

فلم يزل الهرج إلى يوم القيامة‏.‏

باب هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّىِّ إِذَا سَحَرَ

وَسُئِلَ ابْن شِهَابٍ أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ الْشَىْءِ وَلَمْ يَصْنَعْهُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك؛ لقول ابن شهاب، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره؛ فيقتل، أو يحدث حدثًا؛ فيأخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبى حنيفة والشافعي‏.‏

وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أيضًا أنه لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضررًا على مسلم لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك، فقد نقضوا العهد؛ يحل بذلك قتلهم‏.‏

وعلى هذا القول لا حجة لابن شهاب فى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقتل الهيودى الذ سحره؛ لوجوه، منها أنه قد ثبت عن الرسول أنه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأيضًا فإن ذلك السحر لم يضره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يفقده شيئًا من الوحى، ولا دخلت عليه داخلة فى الشريعة، وإنما اعتراه شيء من التخيل والتوهم، ثم لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه ثم عصمه وأعلمه بموضع السحر، وأمره باستخراجه وحله عنه، فعصمه الله من الناس ومن شرهم، كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضر السم بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه، بأنه أظهرها إليه معجزة من كلام الذراع‏.‏

وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا‏:‏ وكيف يجوز السحر على النبى، والسحر كفر وعمل من أعمال الشياطين، فكيف يصل ضره إلى النبى مع حياطة الله له وتسديده إياه بملائكته، وصون الوحى من الشياطين‏؟‏ وهذا اعتراض يدل على جهل وغباوة من قائله وعناد للقرآن؛ لأن الله قال لرسوله‏:‏ ‏(‏قل أعوذ برب الفلق‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن شر النفاثات فى العقد ‏(‏والنفاثات‏:‏ السواحر ينفثن فى العقد كما ينفث الراقى فى الرقية، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأن الله لا يجعل للشياطين سبيلا على النبى، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته ‏(‏يريد إذا تلا ألقى الشيطان‏.‏

وقد روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم أن عفريتًا تغلب عليه ليلة ليقطع عليه الصلاة حتى هم أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد فذكر قول سليمان‏:‏ ‏(‏رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى ‏(‏فرده خاسئًا‏.‏

وليس فى جواز ذلك على النبى ما يدل أن ذلك يلزمه أبدًا، أو يدخل معه عليه داخلة فى شيء من حاله أو شريعته، وإنما ناله من ضر السحر ما ينال المريض من ضر الحمى والبرسام من غير سحر، من الضعف عن الكلام، وسوء التخيل، ثم زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السحرة، وقد أجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة فسقط اعتراض الملحدة‏.‏

باب كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أَهْلِ الْعَهْدِ

وَقَوْل اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً‏}‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنِى أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى‏:‏ أَلاَ لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏(‏الأكْبَرُ‏)‏ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ ‏(‏الْحَجُّ الأصْغَرُ‏)‏، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِى ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِى حَجَّ فِيهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مُشْرِكٌ‏.‏

أجمع العلماء أن للإمام أن يبدأ من يخاف خيانته وغدره بالحرب بعد أن يعلمه ذلك، وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت فى قريظة؛ لأنهم ظاهروا المشركين على حرب رسول الله ونقضوا العهد‏.‏

وقال الكسائى وغيره فى قوله‏:‏ ‏(‏على سواء ‏(‏السواء‏:‏ العدل، وروى عن ابن عباس قال السواء‏:‏ المثل، وقيل‏:‏ انبده إليهم على سواء‏.‏

أى‏:‏ أعلمهم أنك حاربتهم حتى يصيروا مثلك فى العلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما خشى الرسول من المشركين عند الطواف بالبيت خيانتهم ولم يأمن من مكرهم، فأراد تعالى أن يطهر البيت من نجاستهم بقوله‏:‏ ‏(‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ‏(‏وأراد تنظيف البيت ممن كان يطوف عريانًا، وفى هذا دليل أن حجة أبى بكر بالناس كانت حجة الإسلام؛ لأنه وقفه بعرفة ووقف فى ذى الحجة، والوقوف بعرفة بنص كتاب الله‏)‏ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ‏(‏يعنى‏:‏ طواف العرب، وقد اتفق أهل السير أن العرب كانت تفترق فرقتين، فرقة تقف بعرفة، وكانت قريش تقف بالمشعر الحرام، وتقول نحن الحمس، ولا تعظم غير الحرم، فإذا كان يوم النحر اجتمعت القبائل كلها بمنى، وهو يوم الاجتماع الأكبر‏.‏

وقول أبى هريرة‏:‏ ‏(‏يوم الحج الأكبر‏:‏ يوم النحر؛ من أجل قول الناس‏:‏ الأصغر‏)‏ يريد العمرة أنها الحج الأصغر‏.‏

ومذهب مالك وجماعة من الفقهاء أن يوم الحج الأكبر‏:‏ يوم النحر وقال قوم‏:‏ هو يوم عرفة‏.‏

والحجة للقول الأول ما نصه أبو هريرة، ونادى به فى الموسم عن أبى بكر الصديق عن النبى صلى الله عليه وسلم أن يوم الحج الأكبر‏:‏ يوم النحر‏.‏

وأما جهة النظر‏:‏ يوم النحر يعظمه أهل الحج وسائر المسلمين بالتكبير، وفيه صلاة العيد والنحر، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أى يوم هذا‏؟‏‏)‏ فجعل له حرمة على سائر الأيام كحرمة الشهر على سائر الشهور والبلد على سائر البلاد‏.‏

باب‏:‏ إِثمِ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ

فيه‏:‏ ابْن عَمْرٍو قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَرْبَعُ خِلالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا‏:‏ مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ عَلِىّ، مَا كَتَبْنَا عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِلا الْقُرْآنَ، وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمَدِينَةُ حَرَامٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، قِيلَ لَهُ‏:‏ وَكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كَائِنًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ إِى وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ، عَنْ قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، قَالُوا‏:‏ عَمَّ ذَاكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشُدُّ اللَّهُ قُلُوبَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَمْنَعُونَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ‏.‏

قد تقدم معنى حديث ابن عمرو فى كتاب الإيمان‏.‏

قال المهلب‏:‏ ويحتمل أن تكون هذه الأربعة الخلال فى رجل اشتملت على معالم أحواله فسمى بالأغلب مما يظهر منه توبيحًا له، وتقبيحًا لحالة، لا على أنه منافق كافر، وفى السنة نظائر لهذا كثيرة من الحكم بالأغلب، والغدر حرام بالمؤمنين وبأهل الذمة، وفاعله مستحق لاسم النفاق وللعنة الله والملائكة والناس أجمعين، على ما رواه علي‏.‏

ودل حديث أبى هريرة على أن الغدر لأهل الذمة لا يجوز أيضًا، ألا ترى ما أوصى به النبى من الذمة والوفاء بها لأهلها من أجل إنماء معاش المسلمين، ورزق عيالهم، فأعلمهم بهذا الحديث أنهم متى ظلموا منعوا ما فى أيديهم، واشتدوا وحاربوا وأعادوا الفتنة، وخلعوا ربقة الذمة، فلم يجتب المسلمون درهمًا، فضاقت أحوالهم وساءت‏.‏

وفيه من علامات النبوة‏.‏

باب

فيه‏:‏ الأعْمَشَ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ، شَهِدْتَ صِفِّينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ‏:‏ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِى يَوْمَ أَبِى جَنْدَلٍ، وَلَوْ أنى أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لأمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو وَائِلٍ، كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، قَالَ‏:‏ أَلَيْسَ قَتْلانَا فِى الْجَنَّةِ، وَقَتْلاهُمْ فِى النَّارِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏بَلَى‏)‏، قَالَ‏:‏ فَعَلامَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ فِى دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمْ يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِى اللَّهُ أَبَدًا‏)‏، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَوْل النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَدِمَتْ عَلَىَّ أُمِّى، وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فِى عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّ أُمِّى قَدِمَتْ عَلَىَّ وَهِىَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، صِلِيهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏اتهموا رأيكم‏)‏ يعنى‏:‏ فى هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأن كل فريق منهم يقاتل على رأى يراه، واجتهاد يجتهده، فقال لهم سهل‏:‏ اتهموا رأيكم فإنما تقاتلون فى الإسلام إخوانكم براى رأيتموه، فلو كان الرأى يقضى به لقضيت يوم أبى جندل برد أمر النبى يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكة أن يرد إليهم من فر إلى النبى من المسلمين، فحرج أبو جندل يستغيب يجر قيوده، وكان قد عذب على الإسلام‏.‏

فقال سهيل، والد أبى جندل‏:‏ هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه‏.‏

فرد إليه أبا جندل، وهو ينادى‏:‏ أتردوننى إلى المشركين وأنا مسلم، وترون ما لقيت من العذاب فى الله‏؟‏ وقام سهيل إلى ابنه بحجر فكسر فمه، ففارت نفوس المسلمين حينئذ، وقال عمر‏:‏ لسنا على الحق‏؟‏ ولذلك قال سهل ولو أستطيع أن أرد أمر النبى لرددته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فما وضعنا سيوفنا‏)‏ يعنى‏:‏ ما جردناها فى الله لأمر فظيع علينا عظيم إلا أسهلت بنا سيوفنا، أقضته بنا إلى أسهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعنى‏:‏ أمر الفتن التى وقعت بين المسلمين فى صدر الإسلام؛ فإنها ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لم تتبين السيوف فيها الحقيقة بل حلت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السيف أول من سله فى الفتنة‏.‏

وغرض البخارى فى هذا الباب‏:‏ أن يعرفك أن الصبر على المفاتن، والصلة للمقاطع أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال‏:‏ باب الصبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصابرين‏.‏

ألا ترى أن النبى أحذ يوم الحدبيية فى قتال المشركين بالصبر لهم، والوقوع تحت الدنية التى ظنها عمر فى الدين‏؟‏ وكان ذلك الصبر واللين الذى فهمه رسول الله عن ربه فى بروك الناقة عن توجيهها إلى مكة أفضل عاقبة فى الدنيا والآخرة من القتال لهم، وفتح مكة على ذلك الحنق الذى قال المسلمين من تحكمهم على النبى، فكان عاقبة صبر النبى ولينه لهم أن أدخلهم الله الإسلام، وأوجب لهم أجرهم فى الآخرة‏.‏

ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏لأن يهدى الله بك رجلا واحدًا خير لك من حمر النعم‏)‏ فكيف بأهل مكة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمة العرب وسادة الناس، وبدخولهم دخلت العرب فى دين الله أفواجًا‏.‏

وفيه من الفقة‏:‏ أن صلة المقاطع أنجع فى سياسة النفوس، وأحمد عاقبة، وعلى مثل هذا المعنى دل حديث أسماء فى صلة أمها وهى مشركة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى حديث سهل بن حنيف الدلالة البينة أن رسول الله كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرأى مما الأغلب عنده أنه الصواب، وإن كان الله تعالى قد كان عهد إليه فى جواز الصلح فى مثل الحال التى صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرأى كان، لولا ذلك كان عمر وسهل بن حنيف ومن كان ينكر الصلح ويرى قتال القوم أصلح فى التدبير والرأى لينكروا ذلك، ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركة لو كان عندهم آية من أمر الله تعالى نبيه، ولكنه كان عندهم أنه رأى من النبى وإبقاء على من معه من الصحابة؛ لقلة عددهم، وكثرة عدد المشركين، وكان عمر والذين يرون قتال القوم لحسن تصابرهم وجميل نياتهم فى الإسلام إذ كانوا أهل الحق، والمشركون أهل الباطل يرون أن الحق لن يعلوه باطل، لا سيما عدد‏:‏ الله وليهم ورسوله، فأيدهم، فعظم بذلك عليهم الانحطاط فى الصلح، ورأوه وهنا فى الدين، وكان رسول الله أعلم بما يؤدى إليه عاقبة ذلك الصلح منهم مما هو أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأن الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأن ذلك أسد فى الرأي‏.‏

وفيه الدلالة الواضحة على أن لأهل العلم الاجتهاد فى النوازل فى دينهم فيما لا نص فيه من كتاب الله ولا سنة‏.‏

وذلك أن الذين أنكروا الصلح يوم أبى جندل أنكروه اجتهادًا منهم، ورسوله الله بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرفهم خطأ رأيهم فى ذلك، وصواب رأيه، ولو كان الاجتهاد خطأ لكان حريا عليه صلى الله عليه وسلم أن يتقدم إليهم بالنهى عن القول بما أداهم إليه اجتهادهم أشد النهي‏.‏

وفيه أيضًا‏:‏ أن المجتهد عند نفسه مما يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله خطأ، إن كان منه فى اجتهاده، إذا كان اجتهاده على أصل، وكان من أهله؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يؤثم عمر ومن أنكر الصلح، والمعانى التى جرت بينهم فى كتاب الصلح مما كان خلافًا لرأى رسول الله، ولو كانوا فى ذلك مذنبين لأمرهم النبى بالتوبة، ولكنهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، وإن كان الصواب فيما رأى رسول الله، وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‏)‏ وستأتى زيادة فى هذا المعنى فى كتاب‏:‏ الاعتصام إن شاء الله‏.‏

وقال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ وقول عمر‏:‏ أليس قتلادهم فى النار‏؟‏ فعلام نعطى الدنية فى ديننا‏؟‏ هذه المراجعة هى التى قال فيها عمر فى حديث مالك‏:‏ نزرت رسول الله كل ذلك لا يجيبك‏.‏

باب‏:‏ المُصَالَحَةَ عَلَى ثَلاَثَةَ أَيَامٍ أَوْ وَقْتٍ مَعْلُومٍ

فيه‏:‏ الْبَرَاء، أَنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَسْتَأْذِنُهُمْ؛ لِيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لا يُقِيمَ فِبهَا إِلا ثَلاثَ لَيَالٍ، وَلا يَدْخُلَهَا إِلا بِجُلُبَّانِ السِّلاحِ، وَلا يَدْعُوَ مِنْهُمْ أَحَدًا‏.‏

فَلَمَّا مَضَتِ الأيَّامُ، أَتَوْا عَلِيًّا، فَقَالُوا‏:‏ مُرْ صَاحِبَكَ، فَلْيَرْتَحِلْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِىٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، ثُمَّ ارْتَحَلَ‏.‏

ليس فى أمر المهادنة حد عند أهل العلم لا يجوز غيره، وإنما ذلك على حسب الحاجة، والاجتهاد فى ذلك إلى الإمام وأهل الرأي‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما قاضاهم على ثلاثة أيام؛ لأنها ليست بعام وهى داخلة فى حكم السفر، والصلاة تقصر فيها‏.‏

وفيه‏:‏ الوفاء بالشرط، والمطالبة بما وقعت عليه العقود، وسيأتى هذا الحديث فى كتاب الصلح إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ طَرْح جَيفِ المْشرِكِينَ فِى الْبِئرِ وَلاَ يُؤْخَذُ لَهَا ثَمنٌ

فيه‏:‏ ابْن مسعود‏:‏ بَيْنَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِى مُعَيْطٍ بِسَلَى جَزُورٍ فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَته مِنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَى مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ عَلَيْكَ الْمَلأ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ أَبَا جَهْلِ، وَعُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَعُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَىَّ بْنَ خَلَفٍ‏)‏‏.‏

فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِى بِئْرٍ غَيْرَ أُمَيَّةَ- أَوْ أُبَىٍّ- فَإِنَّهُ كَانَ ‏[‏رَجُلا‏]‏ ضَخْمًا، فَلَمَّا جَرُّوهُ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِى الْبِئْرِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى طرح جيف المشركين فى البئر دليل على جواز المثلة بهم إذا ماتوا؛ لأنهم جروه حتى تقطعت أوصاله، وهذا يدل أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن المثلة إنما هو فى الأحياء، والبئر التى ألقوا فيها يحتمل أن تكون للمشركين، فأراد صلى الله عليه وسلم إفسادها عليهم أو لا يكون لأحد عليها ملك، وكانت معطلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا يؤخذ لها ثمن‏)‏ أى‏:‏ لا يجوز أخذ الفداء من المشركين إذ كان أصحاب القليب رؤساء مشركى مكة، ولو مكن أهلهم من إخراجهم من البئر، ودفنهم لبذلوا فى ذلك كثير المال، وإنما لم يجز أخذ الثمن فيها؛ لأنها ميتة لا يجوز تملكها، ولا أخذ عوض عنها، وقد حرم رسول الله ثمن الميتة والأصنام فى حديث جابر، وروى فى ذلك أثر عن النبى أخرجه أبو عيسى الترمذى قال‏:‏ حدثنا محمود بن غيلان قال‏:‏ حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس ‏(‏أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبى صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم إياه‏)‏‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ وقد رواه أيضًا الحجاج بن أرطأة عن الحكم‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لا يحتج بحديث ابن أبى ليلى‏.‏

قال البخارى‏:‏ هو صدوق، ولكن لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه‏.‏

قال الترمذى‏:‏ إنما يهم فى الإسناد‏.‏

وقال الثورى‏:‏ فقهاؤنا ابن أبى ليلى وابن شبرمة‏.‏

وذكر ابن إسحاق فى السير قال‏:‏ لما كان يوم الخندق اقتحمه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، فتورط فيه فقتل، فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله أن يبيعهم جسده، فقال رسول الله‏:‏ لا حاجة لنا بجسده، ولا ثمنه‏.‏

فخلى بينهم وبينه‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ أعطوا رسول الله فى جسده عشرة آلاف درهم فيما بلغنا عن الزهري‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه‏:‏ جواز ستر عورات المشركين، وطرحهم فى الآبار المعطلة، وهو من باب ستر الأذى، ومواراة السوءة والعورة الظاهرة‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه من الفقه‏:‏ أن من الحق مواراة جيفة كل ميت من بنى آدم عن أعين الناس ما وجد السبيل إلى ذلك، مؤمنًا كان الميت أو كافرًا؛ لأمره صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا بقليب بدر ولم يتركهم مطرحين بالعراء، فالحق الاستنان به صلى الله عليه وسلم فيمن أصابه فى معركة الحرب أو غيرها من المشركين، فيوارون جيفته إن لم يكن لهم مانع من ذلك، ولا شيء يعجلهم عنه من خوف كرة عدو‏.‏

وإذا كان ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم فى مشركى أهل الحرب، فالمشركون من أهل العهد والذمة إذا مات منهم ميت بحيث لا أحد من أوليائه، وأهل ملته بحضرته، وحضره أهل الإسلام أولى أن تكون السنة فيهم، لسنته فى أهل بدر، وأن يواروا جيفته ويدفنوه، وقد أمر صلى الله عليه وسلم عليا فى أبيه أبى طالب إذ مات قال‏:‏ ‏(‏اذهب ره‏)‏ فإن يفعلوا ذلك لشاغل أو مانع من ذلك، لم أرهم حرجين بتركهم ذلك؛ لأن أكثر مغازى رسول الله التى كان فيها القتال لم يذكر عنه فى ذلك ما ذكر عنه يوم بدر‏.‏

باب‏:‏ إِثْمِ الْغَادِرِ للْبَرِّ وَالْفَاجِرِ

فيه‏:‏ أَنَسٍ قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- قَالَ أَحَدُهُمَا‏:‏ يُنْصَبُ، وَقَالَ الآخَرُ‏:‏ يُرَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ يَحِلَّ لِى إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، ‏[‏بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏]‏، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أخبر صلى الله عليه وسلم أن عقوبة الغادر يوم القيامة أن يرفع له لواء ليعرف الناس بغدرته، فينظرون منه بعين المعصية، وهذه عقوبة من نوع ما قال الله فى عقوبة الكاذبين على الله‏:‏ ‏(‏ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ‏(‏وإنما قال البخارى‏:‏ باب ‏(‏إثم الغادر للبر والفاجر‏)‏ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل غادر لواء يوم القيامة‏)‏ فدخل فيه من غدر من بر أو فاجر، دل أن الغدر حرام لجميع الناس برهم وفاجرهم؛ لأن الغدر ظلم، وظلم الفاجر حرام كظلم البر التقي‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فما وجه موافقة حديث ابن عباس للترجمة‏؟‏ قيل‏:‏ وجه ذلك والله أعلم أن محارم الله عهود إلى عباده، فمن انتهك منها شيئًا لم يف بما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين، وأيضًا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة من على أهلها كلهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلوم أنه كان فيهم منافقون، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أن مكة حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لا يحل قتال أحد فيها، وإذا كان هذا فلا يجوز الغدر ببر منهم ولا فاجر؛ إذ شمل جميعهم أمان النبى وعفوه عنهم، والله الموفق‏.‏